هذه
هي أهم القضية من القضايا التي شعلت الفكر الإسلامي في عصوره السابقة[1]،
وحاولوا أن يوفقوا بينهما فلاسفة المسلمين منذ أوائل ظهورهم، ومن أبرزهم ابن رشد
وغيرهم من العلماء حتى بعده كذلك. على سبيل المثال الكندي، والفارابي، وابن سينا،
وأيضا شيخ الإسلام ابن تيمية.
كانت
الفلسفة في الدولة الإسلامية أثرا من آثار حركة الترجمة من اللغة الأجنبية إلى
اللغة العربية في عهد خليفة مأمون. وقد أعجب فلاسفة المسلمين
بالفلسفة اليونانية وموضوعاتها وعناصرها شديد التعجب، لما تحتوي فيها من حكمة
عالية، وكمال عقلي، جعلهم حريصين على تعرف وتنشر المسلمين بها.
قال
الدكتور عبد الحميد مدكور في كتابه الرائع [في الفلسفة الإسلامية]، أن الكندي فيلسوف العرب قد أوضح عن إعجاب المسلمين بفلسفة
اليونانية، في سياق تعريفه بكمية كتب أرسطو، حيث يتبين أنه إنما فعل ذلك "لما
في تبيين ذلك من الزيادة في تعشيق الفلسفة لذوى الأنفس النيرة... ولما في كشف ذلك
من وضوح السبيل إلى نهاية الشرف العقلي عند مثل هذه الأنفس."[2]
ويسلك
الفارابي هذا المسلك في الإعجاب بالفلسفة، لا سيما فلسفة أفلاطون وأرسطو، اللذين
يتحدث عنهما حديث إجلال وإكبار. يقول عنهما "ولولا ما أنقذ الله أهل العقول
والأذهان بهذين الحكيمين ومن سلك سبيلهما، لكان الناس في حيرة ولبس."[3]
وأضاف
الدكتور مدكور "أن لم يكن للفلاسفة هذا الجانب المتعلق بالفلسفة فقط، بل إنهم
كانوا ذوي جانب آخر معه، وهو أنهم ينتسبون إلى الإسلام، الذي هو الدين السائد
والغالب في المجتمع الذي يعيشون فيه، وقد كانت هذه الصفة فيهم مانعة لهم من أن
يصوغوا مذاهبهم وأفكارهم دون مراعاة لهذا الدين الذي
يدينون به، ولقد كان هؤلاء الفلاسفة أن يحددوا لهم موقعا، ومكانا بين هذا الدين إلى
آمنوا به، والفلسفة التي أعجبوا بها، فالموقع الذي كان منتظرا منهم فهو الذي يراعى
الجانبين معا، ويبذل الجهد للتقريب والتوفيق بينهما."[4]
العلاقة
بين الدين والفلسفة من الإتفاق والإختلاف
قد
تظهر وتجلى في كثير من المراحل الفلسفة مثل مرحلة اليونانية القديمة، ومرحلة
العصور الوسطى (تمثل في كل من الفلسفات الإسلامية والمسيحية واليهودية)، ومرحلة
العصور الحديثة, أن الدين والفلسفة بينهما ارتباط قوي ووثيق. لكن على
الرغم من عمق الإرتباط بينهما إلا أنهما ليسا شيئا واحدا، بل هما شيئان مختلفان
بينهما بعض أوجه الإتفاق وكثير من أوجه الإختلاف.
أما
أوجه الإتفاق فتظهر في نقطتين:
النقطة
الأولى; الإتفاق في الموضوع الذي يعالجه كل منهما، وهما في هذه النقطة
يلتقيان في كثير من المسائل مثل قضية الألوهية، وعلاقة الإله بالعالم، وأصل الإنسان
ومصيره، وحرية فعل الإنسان إما مسير أم مخير، وخلود النفس أو فنائها، وفكرة الثواب
والعقاب.
النقطة
الثانية; الإتفاق في الهدف أو الغرض الذي يتناولاه كل منهما، فكلاهما يهدف
إلى تحقيق السعادة الإنسانية في العاجل والآجل عن طريق العلم الحق، والعمل الحق.
يقول ابن رشد في كتابه [فصل المقال]، "وينبغي أن تعلم أن مقصود الشرع إنما هو
تعليم العلم الحق، والعمل الحق. والعلم الحق هو معرفة الله تبارك وتعالى وسائر
الموجودات على ما هو عليه، وبخاصة الشريفة منها، ومعرفة السعادة الأخروية والشقاء
الأخروي، والعمل الحق هو إثمار الأفعال التى تفيد السعادة، وتجنب الأفعال التى
تفيد الشقاء، والمعرفة بهذه الأفعال هو الذي يسمى العلم العملي."[5]
أما
أوجه الإختلاف بين الدين والفلسفة، فهي من حيث المصدر والمنبع وكذلك بينهما
إختلاف في المنهج والغاية التي يتناول إليها كل منهما.
أما
من حيث المصدر والمنبع، فإن الدين مصدره الوحى الإلهي المعصوم من الخطأ،
فهو من صنعة إلهية لا تأتي عن اكتساب وسعي بشري، بينهما تقوم الفلسفة على الجهد
البشري والخبرة الإنسانية المحدودة بحدود واضعيها،[6]فالعقل
الإنساني دائما معرض للخطأ والفساد. وما هو جدير بالذكر هنا أن هذا الإختلاف بين
الدين والفلسفة في المصدر لا يؤدي إلى تنازعهما دواما وأبدا، ذلك لأن الوحى من عند
الله والعقل أيضا قبس من نور الله على حد تعبير حجة الإسلام الإمام أبو حامد
الغزالي.
أما
من حيث من المنهج، فإن الفلسفة تعتمد على المنهج العقلي البحت، أما الدين
فإنه يجمع ين مخاطبة العقول والقلوب والوجدان، ومن هنا فهما يختلفان من حيث المنهج.
أما
من حيث الغاية، فهما يختلفان فيها اختلافا كبيرا، فغاية الدين هي الفوز
برضا الله في الدنيا والآخرة، أما غاية الفلسفة غاية دنيوية فقط، تهدف إلى معرفة
الحق والخير بقطع النظر إلى السعادة والنجاة الأخروية.
فالخلاصة
في التفريق بين الدين والفلسفة كما قال الأساتذة من قسم العقيدة والفلسفة كلية
اصول الدين بجامعة الأزهر;
§ "الفلسفة معرفة عقلية جامدة تقبع في الذهن، وليست لها بشاشة تخالط القلوب
وتماذج النفوس، عند من جمدوا على استخدام العقل من الفلاسفة، أما الدين فهو حقيقة
إيمانية حية تتجاوب أصداؤها في أعماق الضمير، فتنعكس على الإنسان بالسعادة القلبية.
§ الفلسفة تمارس نشاطها في جانب واحد من جوانب النفوس وهو جانب العقلي،
والدين يستحوذ على النفس جميعا، بمعنى أنه يخاطب الكينونة البشرية من جميع
جوانبها، ويتعامل مع بديهة الإنسان وعقله وعاطفته ووجدانه.
§ مطلب الفلسفة فكرة جافة ومعرفة جامدة، ومطلب الدين روح وثاب وقوة متحركة.
§ الدين غايته عملية حتى في قسمه النظري، والفلسفة غايتها نظرية حتى في قسمها
العملي. وبعبارة أخرى: وجهة الدين عملية أصالة، ووجهة الفلسفة بالأصالة نظرية، ومن
ثم يبدو الدين في حياة الكثيرين أبلغ أثرا وأكثر إيجابية.
§ الفلسفة تميل إلى العزلة والإستعلاء، والدين وينزع إلى التدفق والإتصال.
§ الدين أساسه الوحي المعصوم، والفلسفة أساسها العقل الإنساني القاصر الذي
تحتمل أفكاره الصواب والخطأ، ومن ثم كان كالم الفلسفة في أمور الإلهيات قولا عقليا
ظنيا، بينما كلام الدين في الإلهيات تصريحا إيمانية قاطعا.
§ الدين حقيقة ثابتة لا تقبل التطور أو التغيير، لأنه وحي الله الكامل، فلا
يمكن أن تضاف إليه عقيدة أو فكرة جديدة، ولا يمكن أن يحذف منه شيء، أما الفلسفة
فهي فكرة عقلية قابلة للتطور، ويمكن أن يضاف إليها وأن يحذف منها، كما حدث في
مختلف الفلسفات.
§ الموقف الفلسفي يستخدم العقل بلا حدود، ودون سابق إلتزام بمبدأ أو فكرة،
تحصيلا للقناعة العقلية أولا، أما الموقف الديني فيستخدم العقل في حدود المعطيات
الدينية فحسب، وبالنسبة للإسلام يجب أن يقال بإنصاف: بأن هذه المعطيات الدينية
الموجودة في الصدر الأول للإسلام، وهو القرآن الكريم-تشبع تطلع العقل الرشيد الذي
لا يريد أن يبدد طاقته فيما لا مطمع في إدراكه، ولا أمل في محاولته إستكشافة.
عالم الدين أو رجل
اللاهوت يبدأ بحثه من العقائد المسلمة في دينه، ويحاول الإستدلال عليها بالأدلة
العقلية والبراهين المنطقية، بعد إستيفاء اليقين بها عن طريق الدين. أما الفيلسوف
فإنه يبدأ بحثه غير ملتزم أو خاضع لعقيدة معينة-أو هكذا ينبغي أن يكون شأنه-ثم
يأخذ بما يؤدي إليه الدليل أو يقضي إليه البرهان كائنا ما يكون. ومن هنا نجد أن
عالم الدين لا يعد مسألة الوجود الإلهي مشكلة أو معضلة، لأن ظهور الدين نفسه برهان
ياقعي على وجود الإله سبحانه، أما الفيلسوف فيعتبر وجود الإله مشكلة عقلية، تتطلب
مجهودا فكريا متواصلا لإثبات هذا الوجود أو إنكاره."[7]
EmoticonEmoticon